فصل: تفسير الآية رقم (112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيرٌ فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلى الله عليه وسلم بوحي أخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهم المستقيم وهو المتوسط بين الافراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلى الله عليه وسلم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقد قالوا‏:‏ إن التوسط بين الافراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى ونفى الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل لس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق، ولهذا قالوا‏:‏ لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق ‏{‏ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 74‏]‏ وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد م السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط‏.‏ ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية صلى الله عليه وسلم‏:‏ «شمروا شمروا» وما رؤى بعدها ضاحكاً‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ؤشد من هذه الآية ولا أشق، وأستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «شيبتني هود» وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مر أول السوءة، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء، ومن هنا قال صاحب الكشف‏:‏ التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة‏.‏

وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال‏:‏ ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شبيه ذكر أهوال القيامة، وكأنه بأبي هو أمي شاهد منه يوماً يجعل الوالدان شيباً انتهى‏.‏

وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشترى السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت حقاً حيث أن الشيظان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال؛ وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إشارة تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدي لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف، ولما كانت هذه السورة جامعة لارشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقى الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة صلى الله عليه وسلم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في ‏{‏كَمَا‏}‏ بمعنى على كما في قولهم‏:‏ كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه، ومن هنا قال ابن عطية‏.‏ وجماعة‏:‏ المعنى استقم على القرآن، وقال مقاتل‏:‏ امض على التوحيد، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏:‏ استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم، والأظهر إبقا ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرتبه، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر ائع، وقد مر التنبيه عليه، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلا أنه قال‏:‏ إنها في حكم مثل في قولهم‏:‏ مثلك لا يبخل فكأنه قيل‏:‏ استقم الاستقامة التي أمرت بها فراراً من تشبيه الشيء بنفسه، ولا يخفى أنه ليس بلازم، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته‏:‏ فإن قلت‏:‏ كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر‏؟‏ قلت‏:‏ هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله، فإن قلت‏:‏ الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها‏؟‏ قلت ملوب الأمر كلى والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك‏:‏ صل ركعتين كما أمرت، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه، وقال‏:‏ المعنى اطلب الإقامة على الدين‏.‏

‏{‏وَمَن تَابَ مَعَكَ‏}‏ أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره، وقد يقال‏:‏ يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه، وقد كان صلى الله عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة، واستظهر ذلك الجلبي، و‏{‏مِنْ‏}‏ على ما اختاره أبو حيان‏.‏ وجماعة عطف على الضمير المستكن في ‏{‏واستقم‏}‏ وأغني الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من الخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع‏.‏

وجوز أبو البقاء كونه منصوباً على أنه مفعول معه، والمعنى استقم مصاحباً لمن تاب، قيل‏:‏ وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم، وجوز كون الخبر ‏{‏مَعَكَ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ أي ر تنحرفوا عما حدّ لكم بافراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسمي ذلك طغياناً وهو مجاوزة الحدّ تغليظاً أو تغليباً لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تأمروا به‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل‏:‏ لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى‏.‏

‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل‏:‏ استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل‏:‏ إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة، وقرأ الحسن‏.‏ والأعمس يعملون بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضاً، وفي الآية على ما قال غير واحد دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقل الإمام‏:‏ وعند لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دل عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالامر بالوضوء وجيء بالاعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل‏.‏

والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل ‏{‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 43‏]‏ وكذا في نحو ‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حد الله تعالى احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روي ذلك ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ بمن وجد منه ما يسمى ظلماً مطلقاً، وقيل‏:‏ ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين؛ ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزني بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل‏:‏ إن ذلك للمبالغة في النهي من حيث أن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلاً، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث أنهم جماعة وليس فليس ‏{‏فَتَمَسَّكُمُ‏}‏ أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي ‏{‏النار‏}‏ وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير ذهب أكثر المفسرين، قالوا‏:‏ وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الافضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل، ويتهالك على ما مصاحبتهم ومنادمتهم‏.‏ ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم‏.‏ ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم‏.‏ ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم‏.‏ ويمد عينية إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية‏.‏ ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلاً عن حقيقة ذلك ذاهلاً عن منتهى ما هنالك‏؟‏ا وينبغي أن يعدّ مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناءاً على ما روي أن رجلاً قال لسفيان‏:‏ إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم، فقال له‏:‏ لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو عافانا الله تعالى وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصحبت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيراً وقد أثقلتك نعم الله تعالى تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏ وأخف ما احتملت إنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطباً تدور عليك رحى باطلهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم‏:‏

‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏ فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله شقم وهيء زادك فقد حضر السفر البعيد، ‏{‏وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 38‏]‏ والسلام‏.‏

وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً، وعن محمد بن سلمة‏:‏ الذباب على العذرة أحسن من قارىء على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال الحسن‏:‏ جمع الدين في لاءين يعني ‏{‏لا تظغوا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ ولا تركنوا ويحكى أن الموقف أبا أحمد طلحة العباب صلى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشى عليه فلما أفاق قيل له، فقال‏:‏ هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الالم‏.‏

هذا وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيداً لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أبي عمرو أنه قرأ ‏{‏تَرْكَنُواْ‏}‏ بكسر التاء على لغة تميم‏.‏

وقرأ قتادة‏.‏ وطلحة‏.‏ والأشهب، ورويت عن أبي عمرو ‏{‏تَرْكَنُواْ‏}‏ بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس‏.‏ وتميم‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ إنها لغة أهل نجد وشد تركن بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ‏}‏ مبنياً للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور ‏{‏تَرْكَنُواْ‏}‏ بفتح الكاف، والماضي ركن بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى على ما قال الأزهري وقرأ ابن وثاب‏.‏ وعلقمة‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن مصرف‏.‏ وحمزة فيما يروى عنه ‏{‏فَتَمَسَّكُمُ‏}‏ بكسر التاء على لغة تميم أيضاً ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع احلال من ضمير ‏{‏تمسكم‏}‏ ‏{‏أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ‏}‏ من جهته تعالى إذ قد سبق في حكم تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ قيل‏:‏ لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك‏.‏ وأوجبه لهم، وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول ‏{‏ثُمَّ‏}‏ عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله تعالى أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأياً مّا كان فالمقام مقام الواو إلا أنه عدل عنها لما ذكر‏.‏

وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحداً لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلاً، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتي بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذا المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فاذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف بثم الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه‏:‏ إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفى على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقِمِ الصلاة‏}‏ أي المكتوبة، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها‏.‏

وقيل‏:‏ المداومة عليها، وقيل‏:‏ فعلها في أول وقتها ‏{‏طَرَفَىِ النهار‏}‏ أي أوله وآخره وانتصابخ على الظرفية لأتم ويضعف كونه ظرفاً للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف ‏{‏وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه‏.‏

وقال الليث‏:‏ هي طائفة من أول الليل، وكذا قال ثعلب، وقال أبو عبيدة‏.‏ والأخفش‏.‏ وابن قتيبة‏:‏ هي مطلق ساعات واناؤه وكل ساعة زلفة، وأنشدوا للعجاج‏:‏ ناج طواه الاين مما وجفا *** طي الليالي زلفا فزلفاسماوة الهلال حتى احقوقفا

وهو عطف على ‏{‏طَرَفَىِ النهار‏}‏، و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ في موضع الصفة له، والمراد بصلاة الطرفين قيل‏:‏ صلاة الصبح والعصر، وروي ذلك عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك، واستظهر ذلك أبو حيان بناءاً على أن طرف الشيء يقتضي يكون من الشيء، والتزم أن أول النهار من الفجر، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازاً فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم‏:‏ القلم أحد اللسانين إلا أنه قيل بشذوذ ذلك‏.‏

وروي عن ابن عباس واختاره الطبري أن المراذ صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازاً وهو حقيقة طرف الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي، وقال مجاهد‏.‏ ومحمد بن كعب القرظي‏:‏ الطرف الأول الصبح‏.‏ والثاني الظهر‏.‏ والعصر، واختار ذلك ابن عطية، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى طرفاً إلى بمجاز بعيد، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء‏.‏

وروى الحسن في ذلك خبراً مرفوعاً، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة، وأغرب من قال‏:‏ صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر، وصلاة الزلف صلاة المغرب‏.‏ والعشاء‏.‏ والصبح، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏زلفا‏}‏ قربا، وحقه على هذا كما في الكشاف أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عز وجل انتهى، قيل‏:‏ والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجباً عليه عليه الصلاة والسلام، أو العشاء‏.‏ والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء واختاره البعض وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب الثلاث فيما ذكر‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ وابن أبي اسحق‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏زلفا‏}‏ بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضاً ولكن ضمت عينه اتباعاً لفائه‏.‏ أو على أنه اسم مفرد كعنق‏.‏ أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف، وقرأ مجاهد‏.‏ وابن محيصن باسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة، وهو على هذا على ما في البحر اسم جنس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ زلفى كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة، وجوز أن تكون هذه الألف بدلاً من التنوين إجراءاً للوصل مجرى الوقف ‏{‏إِنَّ الحسنات عَمِلُواْ السيئات‏}‏ أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت، وقيل‏:‏ يمحينها من صحائف الأعمال، ويشهد له بعض الآثار، وقيل‏:‏ يمنعن من اقترافها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 45‏]‏ وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة‏.‏ والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه‏.‏

والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها، وقيل‏:‏ المراد الفرائض فقط لرواية ‏"‏ الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن ‏"‏ وفيه أنه قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإن الملائكة تؤمّن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ‏"‏ وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصر وهو من الثقات بزيادة «وما تأخر» وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة، وأخرج أبو داود في السنن باسناد حسن عن سهل بنمعاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من أكل طعاماً ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام وزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوباً وقال‏:‏ الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ‏"‏ إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوباً كثيرة، وقيل‏:‏ المراد بها الصلوات المفروضة لما في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم نعم اذهب بها فانها كفارة لما علمت ‏"‏

وروي هذا القول عن ابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وابن المسيب، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى، وفي رواية عن مجاهد أنها قول‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وفيه ما فيه، والمراد بالسيآت عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا‏:‏ إلا التوبة، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء ‏"‏ الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر ‏"‏ واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سيئاتكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏ فما الذي تكفوه الصلوات الخمس‏؟‏ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الحديث ‏"‏ إن الصلوات تكفر ما بينها ‏"‏ أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض، وتعقبه السمهودي بقوله‏:‏ ولك أن تقول‏:‏ لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلا مع الاتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال‏:‏ ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر، وقد قال بعض العلماء‏:‏ إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معاً فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت، وكذا إذا فعل واحداً من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنباً‏.‏

وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، ويرد على قوله‏:‏ إن المراد ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ‏}‏ في جميع العمر منع ظاهر، والظاهر أن المران من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه، وفي تفسير القاضي ما يؤيده، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏ الخ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الواقع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في اظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادراً ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب عن الأشكال أن يقال‏:‏ «ما اجتنبت الكبائر» في الخبر ليس قيداً لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب، وكأنه قيل‏:‏ الصلوات الخمس كفارة لجيمع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعاً بين الأدبة، ولا بدّ في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة الصغائر، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه‏:‏ وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنباً للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث، وممن صرح بأن ما اجتنبت الخ بمعنى الاستثناء نقلاً عن بعضهم المحب الطبري، فقد قال في أحكامه‏:‏ اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر‏؟‏ على قولين‏:‏ أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ ما اجتنبت الكبائر ‏"‏ فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه «إذا اجتنبت» الآتي في بعض الروايات، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلا فلا، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية، وقال بعضهم‏:‏ لا يشترط، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلا الكبائر وهو الأظهر‏.‏

هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التفكير هل يشترط فيه التوبة أم لا‏؟‏ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطاً في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم يشترطه إلا من اشترطها، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادماً والندم توبة، وإن إخباره صلى الله عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعله إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجبّ ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصاً مع زيادة، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلا لكان التكفير به لأنه السابق، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالاً، والمنقول عن السبكي أنه قال‏:‏ إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلاً، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون، وادعى النووي أنه الأصح، وفي شرح البرهان‏:‏ الصحيح عندنا القطع بالتكفير، وقال الحليمي‏:‏ لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التبوة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلاً منه تعالى، ومثل هذا الخلاف الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعى أو ظنى، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي‏.‏

وصدر الشريعة‏.‏ وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنب مركتبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ ولقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة آلء غير ذلك من الآيات والأحاديث، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدوا بآية ‏{‏إِن تَجْتَنِبُوا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 31‏]‏ الخ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتفكير سيآتكم، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه‏.‏

وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضاً، والتخصص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع، وإلى هذا مال ابن املنذر، وحكام ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل‏:‏ أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه، فقال بعضهم‏:‏ يقول‏:‏ إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض، وقد صح أيضاً من حديث أبي هريرة ‏{‏الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر‏}‏ انتهى‏.‏

وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الافراط إذا الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سبباً لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك، وقوله‏:‏ ولو كان كما زعم الخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضاً إذا تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفاً مستمراً، وقريب من هذا ارتفاع الاثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الاملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث‏.‏

‏{‏ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ‏}‏ أي عظمة للمتعظين، وخصهم بالذكر لأنه المنتفعون بها، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل، وقيل‏:‏ هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيآت، وقال الطبري‏:‏ إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل‏:‏ إلى القرآن، وبعض من جعل الاشارة إلى الإقامة فسر الذكري بالتوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر‏}‏ أي على مشاق امتثال ما كلفت به، في الكشاف إن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال‏:‏ وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلا به انتهى‏.‏

ووجه كونه كريراً إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولاً وفعلاً وعقداً وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلاً لا إثم فيه، فالأولى أن يقال‏:‏ إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض، وقيل‏:‏ المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل‏:‏ أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏ ‏{‏فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلاً، وعبر ذلك بنفي الإضاعة بياناً لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئاً من ثوابهم، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص‏.‏

وعن ابن عباس أنه قال‏:‏ المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جل وعلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلاَ كَانَ‏}‏ تحضيض فيه معنى التفجع مجازاً أي فهلا كان ‏{‏مّنَ القرون‏}‏ أي الأقوام المقترنة في زمان واحد ‏{‏مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ‏}‏ أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل‏.‏ أو ذوو فضل على أن يكون البقية اسماً للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال‏:‏ فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت الحماسة‏:‏

إن تذنبوا ثم يأتيني ‏(‏بقيتكم‏)‏‏}‏ *** فما علي بذنب عندكم فوت

ومنه قولهم‏:‏ في الزوايا خبايا‏.‏ وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لانفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل‏:‏ اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرىء ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه، وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال‏:‏ «بقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأخر صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضى يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرىء ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة ‏{‏بَقِيَّتُ‏}‏ بضم الباء وسكون القاف ‏{‏يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض‏}‏ الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ‏}‏ استثناء منقطع أي ولكن قليلاً منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي‏:‏ ولكن قليلاً ممن أنجينا من القرون نهو نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضاً لأولى البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم، ثم قال‏:‏ وإن قلت‏:‏ في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل‏:‏ ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا كان استثناءاً متصلاً ومعنى صحيحاً وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل، والحاصل أن في الكلام اعتبارين‏:‏ التحضيض‏.‏ والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلاً ون المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال‏:‏ إلا قليلا فانهم لا يقال لهم‏:‏ لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب‏.‏

أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فانك إذا قلت‏:‏ اضرب القوم إلا زيداً فليس المعنى على أنه ليس أضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلا زيداً فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال‏:‏ ‏{‏أُوْلُو بَقِيَّتُ‏}‏ محضوضون على النهي ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ فانهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعاً كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستنثاء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا‏.‏ أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفساداً أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال‏:‏ إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن ‏{‏يَنْهَوْنَ‏}‏ خبر ‏{‏كَانَ‏}‏ جعل ‏{‏مّنَ القرون‏}‏ خبراً آخر أو حالاً قدمت لأن تحضيض أولي البقية على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، و‏{‏مّنَ القرون‏}‏ خبراً كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبراً لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلا قليلاً فانهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما أثره الزمخشري أيضاً يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يووّل بأن المقصد من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كؤنه قيل‏:‏ فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلا قليلاً، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولي بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلا ناهياً فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب‏.‏

ولا ترى الضب بها ينجحر *** وقولك‏:‏ ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لاشجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق‏.‏

وادعى بعضهم أن الظاهر أن ‏{‏كَانَ‏}‏ تامة، و‏{‏أُوْلُو بَقِيَّتُ‏}‏ فاعلها، وجملة ‏{‏يَنْهَوْنَ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون‏}‏ حال متقدمة عليه، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، و‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ حال من ‏{‏القرون‏}‏، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناءاً على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضاً ونفياً، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيداً في الكلام؛ والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله بعد من النصب ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ وهم تاركو النهي عن الفساد‏.‏

‏{‏مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ‏}‏ ما انعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة‏.‏

وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل‏:‏ ‏{‏أُتْرِفُواْ‏}‏ أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته ففي إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا؛ ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الاجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ على ما يعم تركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال‏:‏ وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والأجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبي حيان مستأنفة لخبار عن حال هؤلاء ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك‏.‏

وجوز بعض المحققين أن تكون عطفاً على مقدر دل عليه الكلام أي لم ينهوا ‏{‏واتبع‏}‏ الخ‏.‏

وقيل‏:‏ التقدير إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ‏{‏واتبع الذين‏}‏ الخ، وأن تكون استئنافاً يترتب على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد ‏{‏واتبع الذين ظَلَمُواْ‏}‏ من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الاظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لادراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللاشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب‏.‏

وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على ‏{‏نهو‏}‏ الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبراً أيضاً مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن دنهو‏}‏ جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏}‏ جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ عطف على ‏{‏اتبع الذين‏}‏ الخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيرياً على معنى ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على ‏{‏أُتْرِفُواْ‏}‏ على معنى اتبعوا الاتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب التقريب بقوله‏:‏ وفيه نظر لأن ما في ‏{‏مَا أُتْرِفُواْ‏}‏ موصولة لا مصدرية لعود الضمير من ‏{‏فِيهِ‏}‏ إليه، فكيف يقدر ‏{‏كَانُواْ‏}‏ مصدراً إلا أن يقال‏:‏ يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة ‏{‏ظَلَمُواْ‏}‏ فتكون ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضاً بناءاً على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ والعلاء بن سيابة‏.‏ وأبو عمرو، وفي رواية الجعفي ‏{‏واتبع‏}‏ بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، قيل‏:‏ ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا و‏{‏مَا‏}‏ إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهوا المقدر، والمعنى على الأوّل ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ نجيناهم وقد هلك سائرهم، وأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ‏}‏ فقد قالوا‏:‏ إنه لا يحسن جعله قيداً للانجاء إلا من حيث أنه يجري مجرى العلة لاهلاك السائر فيكون اعتراضاً‏.‏ أو حالاً من ‏{‏الذين ظَلَمُواْ‏}‏ والحال الأول من مفعول ‏{‏أَنجَيْنَا‏}‏ المقدر، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضاً في القول الشائع كأنه قيل‏:‏ ‏{‏أَنجَيْنَا‏}‏ القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل‏:‏ فاعل اتبع ما اترفوا أو الكلام على القلب فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى‏}‏ أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ أي ملتبساً به قيل‏:‏ هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائناً ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة، وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ حال من المفعول والعامل فيه عامله، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الاهلاك ظلماً بحال كون أهلها مصلحين، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقاً عن ذلك، وهذا ما اختاره ابن عطية، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فساداً وتباغياً وذلك لفرط رحمته ومساحته في حقوقه سبحانه، ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل‏:‏ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الاشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولاً أولياً ولذلك كان ينهي كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي، فالوجه كما قال‏:‏ حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون البعض متصدياً للنهي‏.‏ والبعض الآخر متوجهاً إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى، لكن أخرج الطبراني‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئل عن تفسير هذه الآية ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ وأهلها ينصف بعضهم بعضاً» وأخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ والخرائطي في مساوي الأخلاق عن جرير موقوفاً، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فالأمر مشكل، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض كما ترى فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَلَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق، ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏‏}‏ مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق، ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ وروي هذا عن ابن عباس‏.‏ وقتادة، وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل‏.‏

أخرج ذلك ابن أبي جاتم عن ابن عباس، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول الدين بقرينة المقام، وقيل‏:‏ المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء

‏[‏بم في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان‏.‏ وجماعة، وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمه الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فانهم أيضاً مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه‏.‏

‏{‏ولذلك خَلَقَهُمْ‏}‏ أي الناس، والإشارة كما روي عن الحسن‏.‏ وعطاء إلى المصدر المفهوم من ‏{‏مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏ ونظيره‏.‏

إذا نهى السفيه جري إليه *** كأنه قيل‏:‏ ولاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير خلقهم، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 56‏]‏ ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء الله تعالى من تفسيرها في الذاريات، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه، ومن هنا قالوا‏:‏ إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما، وبذلك يندفع قولهم‏:‏ ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم، ولما قررناه شواهد كثيرة من الكاتب والسنة ة تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ لمن باعتبار معناه، والإشارة للرحمة المفهومة من ‏{‏رَّحِمَ‏}‏، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير، وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ وقتادة، وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَوَانٌ بَيْنَ ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ واللام على هذا قيل‏:‏ بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله على معناها، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه، والقولان الآخران دونه، وأما القول بأن الاشارة لما بعد، وفي الكلام تقديم وتأخير أي وتمت كلمة ربك لأملان جهنم الخ ولذلك أي لملء جهنم خلقهم فبعيد جداً من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل‏:‏ إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل‏:‏ إنه إشارة إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك‏.‏ أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير‏.‏ أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه‏:‏

‏{‏يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏‏.‏ أو إلى الجنة والنار‏.‏ أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها‏.‏

وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ والمراد بمن رحم الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق، والاشارة للاختلاف بمعنى المخالفة، وضمير ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون، واللام للعاقبة كؤنه قيل‏:‏ ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل، ولا يزالون مخالفين للحق إلا قوماً هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين املخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وان أخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتصي بعضه‏.‏

ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضاً، وقال ابن بحر‏:‏ المراد أن بعضهم يخلف بعضاً فيكون الآتي خلفاً للماضي، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما خلف أحدهما صاحبه، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلا أنه قال‏:‏ يخلف بعضهم بعضاً في الكفر تقليداً، وفي ذلك ما فيه، وأياً مّا كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 19‏]‏ وليراجع تفسير ذلك‏.‏

وقال الفاضل الجلبي‏:‏ ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف ‏{‏وَمَا كَانَ الناس‏}‏ الخ، وفيه نظر، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق بخلق بعده، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا‏:‏ إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه، وهو على الأول الاتفاق‏.‏ وعلى ما عداه يظهر أيضاً بأدنى التفات، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه‏.‏

وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له صلى الله عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ أي نفذ قضاؤه وحق أمره، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازاً وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام؛ والأول أولى، والجملة متضمنة معنى القسم، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ والجنة والجن بمعنى واحد؛ وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى، فيكون من الجموع التي يفرق بينها بين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد بالجنة والناس إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلا لهم، وفي معنى ذلك ما قيل‏:‏ المراد بالجنة والناس أتباع إبليس لقوله سبحانه في الأعراف‏.‏

‏[‏ص‏:‏ 58‏]‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ولا حاجة إلى تقدير عصاة مضافاً إلى الفريقين كما قيل فأجمعين لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت، وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتاً عنه موكولاً إلى شيء آخر، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ تأكيداً للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعاً فانه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر‏.‏

نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلا أن يقال‏:‏ المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل‏:‏ ملأت الكيس من الدراهم ولا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال‏:‏ ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله، ثم قال‏:‏ والحق في الجواب أن يقال‏:‏ المراد بلفظ ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت‏:‏ ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، وكقولك‏:‏ امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ ‏{‏أَجْمَعِينَ‏}‏ إذ فيه رد على اليهود‏.‏ وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى، وتعقبه ابن الصدر بقوله‏:‏ فيه بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل‏.‏

وأجمعين دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الافراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل‏:‏ ملأت الجراب من جميع الطعام باسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضاً ما ذكره من أن في ذلك رداً على اليهود الخ غير صحيح لأن اليهود قالوا ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلاً فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك‏.‏

وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من ‏{‏الجنة والناس‏}‏ الذين بقوا في مرتبة الجنية والانسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الإجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ الخ فانهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال‏:‏ ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف، ونصب كل على أنه مفعول به لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَقُصُّ عَلَيْكَ‏}‏ أي نخبرك به، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏مِنْ أَنْبَاء الرسل‏}‏ صفة لذلك المحذوف لا لكلا لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل، و‏{‏مِنْ‏}‏ تبعيضية، وقيل‏:‏ بيانية، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ قيل‏:‏ عطف بيان لكلا بناءاً على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفاً وتنكيراً، والمعنى هو ما نثبت الخ‏.‏

وجوز إن يكون بدلاً منه بدل كل أو بعض، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، وجوز أيضاً أن يكون مفعول ‏{‏نَقُصُّ‏}‏ ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص ‏{‏نَقُصُّ‏}‏ ‏{‏عَلَيْكَ‏}‏ الذي دنثبت به فؤادك‏}‏ من أنباء الرسل، وإما على الحالية من ‏{‏‏}‏ من أنباء الرسل، وإما على الحالية من ‏{‏مَا‏}‏ أو من الضمير الجرور في ‏{‏بِهِ‏}‏ على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعاً أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعاً‏.‏

واستظهر أبو حيان كون ‏{‏كَلاَّ‏}‏ مفعولاً له لنقص، و‏{‏مِنْ أَنْبَاء‏}‏ في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة، و‏{‏مَا‏}‏ صلة كما هي في قوله تعالى ‏{‏قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه الحق‏}‏ أي الأمر الثابت المطلق للواقع، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس‏.‏ وأبي موسى الأشعري‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن جبير‏.‏

وقيل‏:‏ الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا، وإن جاء في رواية عن الحسن، وقيل‏:‏ إلى الأنباء المقتصة، وهو مما لا بأس به ‏{‏وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ عطف على ‏{‏الحق‏}‏ أي جاءك الجامع المتصف بكونه حقاً في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل‏:‏ من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره‏.‏

وقال الشهاب‏:‏ الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من إرشاده إلى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ‏{‏أَنَاْ عاملون‏}‏ على جهتنا وحالنا التي تحت عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏وانتظروا‏}‏ بنا الدوائر ‏{‏إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ أي ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد، والآيتان محكمتان‏.‏

وقيل‏:‏ المراد الموادعة فهما منسوختان‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض‏}‏ أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السموات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جل وعلا ‏{‏وَإِلَيْهِ‏}‏ لا إلى غيره عز شأنه ‏{‏يُرْجَعُ الامر‏}‏ أي الشأن ‏{‏كُلُّهُ‏}‏ فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه، وقرأ أكثر السبعة ‏{‏يُرْجَعُ‏}‏ بالبناء للفاعل من رجع رجوعاً ‏{‏فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ فانه سبحانه كافيك، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه، وقيل‏:‏ على ذلك، وكونه تعالى عالماً بكل غيب أيضاً، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لاْن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع‏.‏

وقيل‏:‏ التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك؛ ومن التوكل التولك فيه كأنه قيل‏:‏ امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا سضق صدرك منهم ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ بتاء الخطاب على تغليب المخاطب، وبذلك قرأ نافع‏.‏ وأبو عامر‏.‏ وحفص‏.‏ وقتادة والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله بن أحمد بن حنبل‏.‏ وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة هود ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات والارض‏}‏ إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ‏}‏ كامل الشقاوة ‏{‏و‏}‏ منهم ‏{‏سعيد‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ كامل السعادة ‏{‏فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس ‏{‏خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والارض إِلاَّ مَا إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والاذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 107‏]‏ لا حجر عليه سبحانه ‏{‏وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة‏}‏ أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس ‏{‏خالدين فِيهَا دَامَتِ السماوات والارض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها ‏{‏فاستقم كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم ‏{‏وَمَن تَابَ‏}‏ عن انيته وذنب وجوده ‏{‏معك‏}‏ من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء، وقيل‏:‏ إن الاستقامة المأمور بها صلى الله عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالىمطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ على قول، ومن هنا قال الجنيد قدس سره‏:‏ الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين‏.‏ والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين‏.‏ والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين ‏{‏وَلاَ تَطْغَوْاْ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 112‏]‏ ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة ‏{‏وَلاَ تَرْكَنُواْ‏}‏ أي لا تميلوا أدنى ميل ‏{‏إِلَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل‏:‏

الظلم من شيم النفوس فان تجد *** ذا عفة فلعلة لم يظلم

وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء، وقيل‏:‏ لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع ‏{‏وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل‏}‏ أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن، وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غنى عن البيان ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 114‏]‏ قال الواسطي‏:‏ أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 411‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 70‏]‏ ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيآت ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق ‏{‏واصبر‏}‏ بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير ‏{‏فإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 115‏]‏ الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِى الارض‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏ فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 117‏]‏ قيل‏:‏ القرى فيه إشارة إلى القلوب ‏{‏وَأَهْلُهَا‏}‏ إشارة إلى القوى ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد

‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 118‏]‏ في الوجهة والاستعداد ‏{‏إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ‏}‏ بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فانهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل‏:‏

عباراتنا شتى وحسنك واحد *** وكل إلى ذاك الجمال يشير

‏{‏ولذلك‏}‏ الاختلاف ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره، وقيل‏:‏ ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا ‏{‏أملان جهنم من الجنة والناس أجميعن‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏ لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها ‏{‏وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ‏}‏ لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم ‏{‏وَجَاءكَ فِى هذه‏}‏ السورة ‏{‏الحق‏}‏ الذي ينبغي المحيد عنه ‏{‏وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 120‏]‏ وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه، وقيل‏:‏ للتشريف، وإلا فالقرآن كله كذلك، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه، ومن هنا قيل‏:‏ العموم متعلقون بظاهره‏.‏ والخصوص هائمون بباطنه‏.‏ وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلى الحق سبحانه فيه ‏{‏وَللَّهِ غَيْبُ السموات‏}‏ على اختلاف معانيها ‏{‏والارض‏}‏ كذلك ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الامر كُلُّهُ‏}‏ أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه ‏{‏فاعبده‏}‏ اسقط عنك خظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ الا تعمتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏ فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره‏.‏

انتهى ما وفقنا له من تفسير هود بمنّ من بيده الكرم والجود، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه، ما غردت الاقلام في رياض التحرير، ووردت الأفهام من حياض التفسير‏.‏

‏[‏سورة يوسف‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر‏}‏ الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع، والإشارة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءايات الكتاب‏}‏ إليه في قول، وإلى ‏{‏ءايات‏}‏ هذه السورة في آخر، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد‏.‏ أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوساً نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد‏.‏

وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود؛ والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر ‏{‏المبين‏}‏ من أبان بمعنى بأن أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فراراً منه‏.‏ أو بمعنى بين بمعنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد‏.‏ أو ما سألت عنه اليهود أو ما أمرت أن تسئل عنه من السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر‏.‏ أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص‏.‏

وعن ابن عباس‏.‏ ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وام يحتاج إليه في أمر الدنيا، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معاذ عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك‏:‏ بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف‏:‏ الطاء‏.‏ والظاء‏.‏ والصاد‏.‏ والضاد‏.‏ والعين‏.‏ والحاء المهملتان، والمذكور في الفرهنك‏.‏ وغيره من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانة، ونظم ذلك بعضهم فقال‏:‏

هشت حرفست أنكه أندر فارسي *** نايدهميتاينا موزى بناشى أندرين

معنى معافبشنوا كنون تاكدام *** أست أن حروف ويا دكيرثا‏.‏ وحا‏.‏ وصاد‏.‏ ضاد‏.‏ وطا‏.‏ *** وظا‏.‏ وعين‏.‏ وقاف

ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على القول الأخير، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي

بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أنزلناه قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المانسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآناً لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض، نعم إنه غلب على الكل عند الاطلاق معرفاً لتبادره، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أولا‏؟‏ فيه خلاف، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة‏.‏ وأخرى لما يعمه، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواتراً، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له، ولذا لزمن العلم بها اللام أو الإضافة إلا أن يدعى أن فيها وضعاً تقديرياً كذا قيل؛ وممن صرح بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع العلامة الزرقاني‏.‏ وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال‏:‏ إن دلالة الاعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل‏.‏

وعن الزجاج‏.‏ وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم، وقيل‏:‏ هو للإنزال المفهوم من الفعل، ونصبه على أنه مفعول مطلق، و‏{‏قُرْءاناً‏}‏ هو المفعول به، والقولان ضعيفان كام لا يخفى، ونصب ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمستق حال موطئة للحال التي هي ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ وإن أول بالمشتق أي مقروءاً فحال فير موطئة؛ و‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلاً، وقيل‏:‏ ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ بدل من الضمير، و‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ صفته، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره، ومعنى كونه ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ أنه منسوب إلى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة‏.‏

أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها الله تعالى عليه، وقال عبد الملك بن حبيبن‏:‏ كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربياً إلى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانياً وهو منسوب إلى أرض سورية وهي أرض الجزيرة‏.‏ وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضاً لسان جميع من في السفينة إلا رجلاً واحداً يقال له‏:‏ جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد‏.‏

وعبيل‏.‏ وجاثر أبي ثمود‏.‏ وجديس، وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنوا إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي، وقال ابن دحية‏:‏ العرب أقسام‏:‏ الأول عاربة وعرباء وهم الخلص وهم تسع قبائل من ولد إرم بن سام بن نوح، وهي عاد، وثمود‏.‏ وأميم‏.‏ وعبيل‏.‏ وطسم‏.‏ وجديس‏.‏ وعمليق‏.‏ وجرهم‏.‏ ووبار، ومنهم تعلم عليه السلام العربية، والثاني المتعربة قال في الصحاح‏:‏ وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضاً وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان بن أدد اه‏.‏

وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائا‏:‏ عاد‏.‏ وثمود، وعمليق‏.‏ وطسم‏.‏ وجديس‏.‏ وأميم‏.‏ وجاسم، وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل، وأول من انعدل لسانه عن السريانية إلى العربية يعرب بت قحطان وهو مراد الجوهري بقوله‏:‏ إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفاً ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية‏.‏

وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا‏}‏ الخ ثم قال‏:‏ ‏"‏ ألهم إسمعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهاماً ‏"‏ وقال الشيرازي في كتاب الألقاب‏:‏ أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال‏:‏ حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة» وروي أيضاً عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة، وأريد بذلك على ما قاله بعض الحفاظ عربية قريش التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقاً كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير‏.‏ وقحطان، وقال محمد بن سلام‏:‏ أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال‏:‏ العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميراً وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد‏.‏

وثمود‏.‏ وطسم‏.‏ وجديس‏.‏ وأميم‏.‏ وجرهم‏.‏ والعماليق‏.‏ وأمم غيرهم لا يعلمهم إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته وأما عرب اليمن وهم حمير فالمشهور كما قال ابن ماكولا‏:‏ إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود، وقيل‏:‏ أخوه، وقيل‏:‏ من ذريته، وقيل‏:‏ قحطان هو هود، وحكى ابن إسحق‏.‏ وغيره أنه من ذرية إسمعيل، والجمهور على أن العرب الحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقاً كانت قبله وهى إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضاً وكثر تكلمه فيما قيل‏:‏ بالسريانية، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفاً أو اسطلاحاً، واستدلوا على أسبقيتها وجوداً بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه، وهي أفضل اللغات حتى حكى سيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بفيرها لمن يحسنها من غير حاجة، وبعدها في الفضل على ما قيل‏:‏ الفارسية الدرية حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناءاً كالإخلاص وغيره‏.‏ وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها، وفي النهاية‏.‏ والدارية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم‏.‏

وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه، نعم الصحيح أن الإمام رجع عن ذلك، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشر نبلالي ما ملخصه‏:‏ حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقاً كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناءاً واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكراً بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أمياً وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام‏.‏ وصاحبيه، وأطال الكلام في ذلك، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن أو كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية، ففي الحديث «نسان أهل الجنة العربي‏.‏ والفارسي الدري» وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال‏:‏ بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية‏.‏

وأخرج الطبراني‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي‏.‏ وآخرون عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئاً آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير، وقد قسم لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ «يا رسول الله مالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا‏؟‏ قال‏:‏ كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها»‏.‏

وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن أبراهيم بن الحرث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل‏:‏ يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك‏؟‏ قال‏:‏ حق لي فانما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين»، هذا وجوز أن يكون العربي منسوباً إلى عربة وهيناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر‏:‏ ‏(‏وعربة‏)‏‏}‏ أرض ما يحا حرامها *** من الناس إلا اللوذعي الحلاحل

والمراد لغة أهل هذه الناحية، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وأبو عبيدة‏.‏ والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربياً على أنه لا معرب فيه، وشدد الشافعي النكير على من زعم وقوع ذلك فيه، وكذا أبو عبيدة فانه قال‏:‏ من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول‏.‏

ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس‏:‏ وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية‏.‏ أو الحبشية‏.‏ أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات، وقال غيره‏:‏ بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجري العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن‏.‏

وقال آخرون‏:‏ كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جداً ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر‏.‏ وفاتح، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة‏:‏ لا يحيط باللغة إلا نبي‏.‏

وذهب جمع إلى وقوع غير العربي فيه، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ المراد أنه عربي الأسلوب، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعملمية والعجمة، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة التابعي الجليل أنه قال‏:‏ في القرآن من كل لسان، وروي مثله عن سعيد بن جبير‏.‏ ووهب بن منبه‏.‏

وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب وأيضاً لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ملاسلاً إلى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء، وقد أشار إلى الوجه الأول ابن النقيب‏.‏

وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء‏:‏ والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعاً وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال‏:‏ إنها عربية فهو صادق، ومن قال‏:‏ إنها غجمية فهو صادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي‏.‏ وابن الجزري‏.‏ وآخرون، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضاً فليتفطن وليتأمّل‏.‏

واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقاً من أربعة أوجه‏:‏ الأول وصفه بالإنزال، والقديم لا يجوز عليه ذلك، الثاني وصفه بكونه عربياً، والقديم لا يكون عربياً ولا فارسياً، الثالث أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا‏}‏ يدل على أنه سبحانه قادر على أنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه‏.‏

الرابع أن قوله عز سأنه‏:‏ ‏{‏تِلْكَ ءايات الكتاب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 1‏]‏ يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركباً كان محدثاً ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول‏.‏

وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسب وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربياً ولا غيره ولا بكونه مركباً من الحروف ولا غيرها، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة، وصرح غير واحد أن لعل مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية، ومرادة من ذلك ظاهر، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزاً لا يناسب المقام‏.‏ وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى‏.‏